منذ أن انطلقت الصحافة في بداية منتصف القرن السادس عشر في ألمانيا وإنجلترا، أدركت منظومة الدولة أهمية هذا الكيان الذي بدا غريباً في تلك الحقبة من التاريخ.
وشيئا فشيئا بدأت الصحافة ترسّخ نفسها ووجودها في عالم كان قد بدأ للتو في التشكل على أسس جديدة، واحتاج إلى أكثر من قرنين من الزمن وحربين عالميتين ليتبلور بالشكل الذي نعرفه.
ومع تطور الصحافة وبلوغ تأثيرها المبلغ الذي لم يكن يتخيله صانعوها ذات يوم، بدأت دوائر المخابرات ومجتمع الاستخبارات بالتسلل إلى تلك المنظومة وصار أمر استخدامها حتمي، كيف لا وهي القادرة على أن تؤثر وأن تقود الرأي العام، حتى سُميت في الغرب بالسُلطة الرابعة، أما في عالمنا العربي فلم تبلغ مرحلة الُسلطة وبقيت ” سَلطة ” بفتح السين ولا علاقة لها بعملية صنع القرار ومراقبته.
ونبقى نتحدث عن الغرب وعالمهم، فلقد نجح هذا الغرب في استخدام الصحافة، وبالتالي لم يفوّت فرصة استخدامها في تسوية مشاكل أو إنتاج مشاكل -إن تطلب الأمر، وتأجيج حروب أو إطفائها، بل وأصبحت الصحافة في كثير من الأحيان كجزء من منظومة العمل الاستخباراتي .
في الحرب على العراق، وقبل شن حرب الغزو الأمريكي على هذا البلد عام 2003، يكفي أن تتابع الصحافة الغربية وما كانت تكتبه عن العراق وعن صدام حسين، حتى تُصاب بالدهشة، أنت الذي كنت تعيش داخل هذا البلد وتدرك حقيقة الكثير من الأمور.
قبل الحرب الدولية التي شنُنت على العراق لتجرير الكويت عام 1991، شاعت في الصحافة الغربية قصص عن قدرات العراق العسكرية، بعضها كان عبارة عن تسريبات من دوائر الاستخبارات الغربية، ومنها قصة المدفع العملاق الذي قيل إن العراق يمتلكه.
هذا المدفع الذي عُرف باسم بابل، كان بداية جزءاً من محاولة عراقية لتطوير مدفع ضخم قادر على أن يولد قدرة تفجيرية كبيرة، فاقتضى الأمر التعاون مع خبير المدفعية الكندي جيرالد بول لإنتاج مدفع متطور تبلغ ماسورته مساحة ملعب كرة القدم.
طبعا كل التقديرات كانت تشير إلى أن العملية لم تنجح لأسباب كثيرة، وبالتالي تبخر المشروع الذي بدأ العمل عليه قبيل نهاية الحرب العراقية الإيرانية.
عادت دوائر الاستخبارات وسربت الموضوع للصحافة مرة أخرى، مع إضافات لم تدر حتى في خلد الذين حاولوا صناعة مثل هذا المدفع، سواء المهندسيين العراقيين أو نظرائهم في الشركة التي ملكها الكندي، حتى أضافوا الكثير من التفاصيل حول قدرة هذا المدفع الذي قادر على أن يحرق العالم، حتى سُمي في تلك الصحافة بم جهنم.
الكذبة الأخرى التي ربما لا تخفى على أحد، سوى على الصحافة الغربية التي تناقلتها بكل سذاجة أو خبث، كذبة وزير الدفاع الأمريكي الأسبق كولن بأول في مجلس الأمن الدولي، يوم أن تحدث عن قدرة العراق على إنتاج قنبلة نووية في غضون 45 ثانية وغيرها من تلك الأكاذيب التي ستبقى تشكل وصمة عار في جبين أمريكا ، والإعلام الغربي أيضا الذي تناقل تلك المعلومات دون تمحيص، وهو الذي يجتهد في التحري وراء الكثير من المعلومات.
كانت الصحافة الغربية تتحدث عن صدام حسين بإعجاب كبير، فهو شخصية قوية ، ولديها القدرة على القيادة ، بل الأكثر من ذلك كانت هناك حملة ممنهجة للحديث عن القوات العراقية الكبيرة والضخمة وما يمكن أن تلاقيه قوات التحالف في حال قررت الدخول عسكريا إلى العراق.
أصيب الرجل بداء العظمة، وهو صاحب الشخصية النرجسية المعروفة، ودمر الغرور القيادة، وصار الحديث عن إمكانية هزيمة العدو أمر لا محالة فيه.
في المقابل كانت تدرك دوائر الاستخبارات الغربية أن العراق بات نمر من ورق بعد 13 عاما من الحصار الخانق، وأن عملية احتلاله لن تكون أكثر من نزهة.
الصحافة الغربية بحديثها الطويل عن إمكانيات الجيش العراقي أوحت لجمهورها بأن احتلال العراق سيكون نصرا عسكريا لا يقل عن نصر الحلفاء على ألمانيا النازية عام 1945، بل الأكثر من ذلك كان هناك من يسرب لتلك الصحافة أن العراق أقوى من المانيا النازية وأن الإمكانيات المخيفة والمخفية التي يمتلكها العراق ستفاجأ التحالف.
وأنت الجالس في ركن بعيد وسط تلك المدينة التي كانت تتسرب إليها الأشباح شيئا فشيئا بعد مغادرة أهلها ، كنت تدرك أن هذه التقارير غير دقيقة وأن الجيش لا قبل له بالقتال ولا بالمواجهة بعد 13 عاما من حصار أكل الأخضر واليابس ودفع بعوائل عراقية إلى بيع أثاث بيتها من أجل أن تقايضها بلقمة خبز، بل كان الجندي العراقي يكاد يسقط مغشيا عليه من أثر الجوع ، هذا قبل ان تبدأ الحرب أصلا، يرافق كل ذلك تهالك كل المعدات العسكرية وتخلفها وانتهاء صلاحيتها أصلا.
وكان ما كان، لم تستغرق العملية أكثر من عشرين يوما، كان العلوج في بغداد، وانتهى كل شيء.
اليوم يعاد ذات السيناريو هنا أو هناك، فالتقارير التي تنشرها صحافة الغرب عن إمكانيات حزب الله أو إيران أو الحوثي ، تجعلك تشعر أنك أمام إمكانيات عظيمة، ولكن واقع الحال يشير إلى عكس ذلك، فهي أغلبها تعمل بطريقة الميلشيات وغالبية أسلحتها تافهة قياسا بأسلحة الغرب، ناهيك طبعا عن تعظيم حجم الخسائر التي تتعرض لها إسرائيل مع كل ضربة تتعرض لها.
وطبعا دوائر الاستخبارات تبقى قادرة على إيهام الجميع بأن أمريكا وإسرائيل والغرب كله على كف عفريت بسبب تلك الميلشيات ومن خلفهم إيران، حتى تعطي للنصر عليهم طابعا بطوليا أكثر، متى ما قررت ذلك.
بالمجمل ، لا تصدق الكثير مما تقرأه في صحافة الغرب، فهناك لعبة تجري من خلف الكواليس بعضها يدار بقصد وبعضها تلعبه الصحافة من دون قصد، فأنت كصحفي ستكون ممتنا لمصدر في دائرة الاستخبارات أو المخابرات الأمريكية عندما يسرب لك معلومة ، وقس على ذلك.
في الغرب هناك متسع للرأي، يمكن أن تتحدث في مقال عن المخاطر التي قد تواجهها دولتك في حال شنت حربا هنا أو هناك وتحذر صانع القرار، ويمكن أن تهاجم دائرة الاستخبارات أو الجيش في حال فشل في مواجهة هنا أو هناك، كما حصل مع إسرائيل عقب عملية 7 أكتوبر، لن تكون مدانا بشيء، خاصة وأنك تعبر عن رأيك، بالتالي ترى مثل هذه السجالات التي تفجرها القنوات الإسرائيلية حيال ما يجري، لا يعني بأي حال من الأحوال أن دولة الكيان على وشك السقوط.
ستسقط دولة الكيان عندما تبدأ بملاحقة الصحفيين وصناع الرأي، عندما تلاحق كل شخص ينتفدها وينتقد أدائها، عندما تتحول السلطة الرابعة إلى ” سَلطة ” كحال بلادنا العربية.
فلنتعلم الدرس، مجتمع الاستخبارات الغربية يعرف كيف يتلاعب بالعقول والشعوب ، ويعرف كيف يجعل من الصحافة حرة وهي عز انقيادها وانسياقها وراء خططه وأهدافه.